قصة على لسان صاحبها وهو شاب في أواخر العشرينات , يقول : تعودت كل ليلة أن امشي قليلا ، فأخرج لمدة نصف ساعة ثم أعود ..
وفي خط سيري يوميا كنت أشاهد طفلة لم تتعدى
السابعة من العمر ..
كانت تلاحق فراشا اجتمع حول إحدى أنوار الإضاءة
المعلقة في سور احد المنازل ..
لفت انتباهي شكلها وملابسها .. فكانت تلبس
فستانا ممزقا ولا تنتعل حذاءاً ..
وكان شعرها طويلا وعيناها خضراوان .. كانت
في البداية لا تلاحظ مروري ..
ولكن مع مرور الأيام .. أصبحت تنظر إلي ثم
تبتسم .. في احد الأيام استوقفتها
وسألتها عن اسمها فقالت أسماء .. فسألتها أين
منزلكم ..
فأشارت إلى غرفة خشبية بجانب سور احد المنازل ..
وقالت هذا هو عالمنا ،
أعيش فيه مع أمي وأخي خالد.. وسألتها عن أبيها ..
فقالت أبي كان يعمل سائقا في إحدى الشركات
الكبيرة .. ثم توفي في حادث
مروري ..
ثم انطلقت تجري عندما شاهدت أخيها خالد يخرج
راكضا إلى الشارع ..
فمضيت في حال سبيلي .. ويوما بعد يوم .. كنت
كلما مررت استوقفها لأجاذبها
أطراف الحديث ..
سألتها : ماذا تتمنين ؟ قالت كل صباح اخرج إلى نهاية
الشارع ..
لأشاهد دخول الطالبات إلى المدرسة .. أشاهدهم
يدخلون إلى هذا العالم
الصغير ..
مع باب صغير .. ويرتدون زيا موحدا ... ولا اعلم
ماذا يفعلون خلف هذا السور ..
أمنيتي أن أصحو كل صباح .. لألبس زيهم ..
واذهب وادخل مع هذا الباب لأعيش
معهم وأتعلم القراءة والكتابة .. لا اعلم ماذا
جذبني في هذه الطفلة الصغيرة ..
قد يكون تماسكها رغم ظروفها الصعبة .. وقد
تكون عينيها .. لا اعلم حتى الآن
السبب ..
كنت كلما مررت في هذا الشارع .. احضر لها
شيئا معي .. حذاء .. ملابس .. ألعاب ..
أكل .. وقالت لي في إحدى المرات .. بأن خادمة
تعمل في احد البيوت القريبة
منهم قد علمتها الحياكة والخياطة والتطريز ..
وطلبت مني إن احضر لها قماشا وأدوات خياطة .. فأحضرت لها ما طلبت ..
وطلبت مني في احد الأيام طلبا غريبا .. قالت لي :
أريدك أن تعلمني كيف
اكتب كلمة احبك .. ؟ مباشرة جلست أنا وهي
على الأرض .. وبدأت اخط لها
على الرمل كلمة احبك .. على ضوء عمود إنارة في
الشارع .. كانت تراقبني
وتبتسم ..
وهكذا كل ليلة كنت اكتب لها كلمة
احبك .. حتى أجادت كتابتها بشكل رائع ..
وفي ليلة غاب قمرها ... حضرت إليها .. وبعد أن
تجاذبنا أطراف الحديث ..
قالت لي أغمض عينيك .. ولا اعلم لماذا أصرت على
ذلك .. فأغمضت عيني ..
وفوجئت بها تقبلني ثم تجري راكضة .. وتختفي
داخل الغرفة الخشبية ..
وفي الغد حصل لي ظرف طارئ استوجب سفري
خارج المدينة لأسبوعين
متواصلين ..
لم استطع أن أودعها .. فرحلت وكنت اعلم أنها
تنتظرني كل ليلة .. وعند عودتي ..
لم اشتاق لشيء في مدينتي .. أكثر من شوقي
لأسماء ..
في تلك الليلة خرجت مسرعا وقبل الموعد وصلت
المكان وكان عمود الإنارة
الذي نجلس تحته لا يضيء.. كان الشارع هادئا ..
أحسست بشي غريب ..
انتظرت كثيرا فلم تحضر .. فعدت أدراجي ..
وهكذا لمدة خمسة أيام ..
كنت احضر كل ليلة فلا أجدها ..
عندها صممت على زيارة أمها لسؤالها عنها .. فقد
تكون مريضة ..
استجمعت قواي وذهبت للغرفة الخشبية .. طرقت
الباب على استحياء..
فخرج أخاها خالد .. ثم خرجت أمه من بعده ..
وقالت عندما شاهدتني ..
يا إلهي .. لقد حضر .. وقد وصفتك كما أنت
تماما .. ثم أجهشت في البكاء ..
علمت حينها أن شيئا قد حصل .. ولكني لا اعلم ما
هو ؟!
عندما هدأت الأم سألتها ماذا حصل ؟؟ أجيبيني
أرجوك ..
قالت لي : لقد ماتت أسماء .. وقبل وفاتها .. قالت لي
سيحضر احدهم للسؤال
عني فأعطيه هذا وعندما سألتها من يكون .. قالت
اعلم انه سيأتي ..
سيأتي لا محالة ليسأل عني ؟؟ أعطيه هذه القطعة ..
فسالت أمها ماذا حصل ؟؟
فقالت لي توفيت أسماء .. في إحدى الليالي أحست ابنتي
بحرارة وإعياء
شديدين ..
فخرجت بها إلى احد المستوصفات الخاصة القريبة ..
فطلبوا مني مبلغا ماليا كبيرا مقابل الكشف والعلاج لا
أملكه ..
فتركتهم وذهبت إلى احد المستشفيات العامة ..
وكانت حالتها تزداد سوءا.
فرفضوا إدخالها بحجة عدم وجود ملف لها بالمستشفى .. فعدت إلى المنزل ..
لكي أضع لها الكمادات .. ولكنها كانت
تحتضر .. بين يدي ..
ثم أجهشت في بكاء مرير .. لقد ماتت .. ماتت
أسماء ..
لا اعلم لماذا خانتني دموعي .. نعم لقد خانتني ..
لأني لم استطع البكاء ..
لم استطع التعبير بدموعي عن حالتي حينها .. لا اعلم
كيف اصف شعوري ..
لا استطيع وصفه لا أستطيع .. خرجت مسرعا ولا
أعلم لماذا لم اعد إلى مسكني ...
بل أخذت اذرع الشارع .. فجأة تذكرت الشيء
الذي أعطتني إياه أم أسماء ..
فتحته ... فوجدت قطعة قماش صغيرة مربعة ..
وقد نقش عليها بشكل رائع كلمة ~[
أحبك ..
وامتزجت بقطرات دم متخثرة ...
يالهي .. لقد عرفت سر رغبتها في كتابة هذه
الكلمة ..
وعرفت الآن لماذا كانت تخفي يديها في أخر لقاء ..
كانت أصابعها تعاني من وخز الإبرة التي كانت تستعملها للخياطة والتطريز ..
كانت اصدق كلمة حب في حياتي .. لقد كتبتها بدمها .. بجروحها .. بألمها ..
كانت تلك الليلة هي أخر ليلة لي في ذلك الشارع ..
فلم ارغب في العودة إليه مرة أخرى.. فهو كما
يحمل ذكريات جميلة ..
يحمل ذكرى الم وحزن ..